فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56)}.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المعبودين من دون اللهالذين زعم الكفار أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، ويشفعون لهم عنده لا يملكون كشف الضر عن عابديهم. أي إزالة المكروه عنهم، ولا تحويلًا أي تحويله من إنسان إلى آخر، أو تحويل المرض إلى الصحة، والفقر إلى الغنى، والقحط إلى الجبد ونحو ذلك. ثم بين فيها ايضًا أن المعبودين الذين عبدهم الكفار من دون الله يتقربون إلى الله بطاعته، ويبتغون الوسيلة إليه، أي الطريق إلى رضاه ونيل ما عنده من الثواب بطاعته فكان الواجب عليكم أن تكونوا مثلهم.
قال ابن مسعود: نزلت هذه الآية في قولم من العرب من خزاعة أو غيرهم، كانوا يعبدون رجالًا من الجن، فأسلم الجنيون وبقي الكفار يعبدونهم فأنزل الله {أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة} الآية وعن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في الذين كانوا بعبدون عزيزًا والمسيح وأمه. وعنه أيضًا، وعن ابن مسعود، وابن زيد، والحسن: أنها نزلت في عبدة الملائكة.
وعن ابن عباس: أنها نزلت في عبدة الشمس والقمر والكواكب وعزيز والمسيح وأمه.
وهذا المعنى الذي بينه جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من أن كل معبود من دون الله لا ينفع عابده، وأن كل معبود من دونه مفتقر إليه ومحتاج له جل وعلا- بينه أيضًا في مواضع أخر، كقوله في سبأ: {قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ الله لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22-23]، وقوله في الزمر: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ الله عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون} [الزمر: 38]، إلى غير ذلك من الآيات وقد قدمنا في سروة المائدة أن المراد بالوسيلة في هذه الآية الكريمة وفي آية المائدة هو التقرب إلى الله بالعمل الصالح. ومنه قول لبيد:
أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم ** بلى كل ذي لب إلى الله واسل

وقد قدمنا في المائدة ان التحقيق أن قول عنترة:
إن الرجال لهم إليك وسيلة ** إن يأخذوك تكحلي وتخضبي

من هذا المعنى، كما قدمنا أنها تجمع على وسائل، كقوله:
إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا ** وعاد التصافي بيننا والوسائل

وأصح الأعاريب في قوله: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} أنه بدل من واو الفاعل في قوله: {يَبْتَغُونَ} وقد أوضحنا هذا في سورة المائدة بما أغنى عن إعادته هنا، والعلم عند الله تعالى.
{وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)}.
قال بعض أهل العلم: في هذه الآية الكريمة حذف الصفة، أي وإن من قرية ظالمن إلا نخن مهلكوها. وهذا النعت المحذوف دلت عليه آيات من كتاب الله تعالى. كقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى حتى يَبْعَثَ في أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59] وقوله: {ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131]. أي بل لابد أن تنذرهم الرسل فيكفروا بهم وبربهم. وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]، وقوله: {وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} [الطلاق: 8-9] إلى غير ذلك من الآيات. وغاية ما في هذا القول حذف النعت مع وجود أدلة تدل عليه. ونظيره في القرآن قوله تعالى: {وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79] أي كل سفينة صالحة. بدليل أن خرق الخضر للسفينة التي ركب فيهاهو موسى يريد به سلامتها من أخذ الملك لها، لأنه لا يأخذ المعيبة التي فيها الخرق وإنما يأخذ الصحيحة. ومن حذف النعت قوله تعالى: {قَالُواْ الآن جِئْتَ بالحق} [البقرة: 71] أي بالحق الواضح الذي لا لبس معه في صفات البقرة المطلوبة. ونظيره من كلام العرب قول الشاعر، هو المرقش الأكبر:
ورب أسيلة الخدين بكر ** مهفهفة لها فرع وجيد

أي فرع فاحم وجيد طويل، وقول عبيد بن الأبرص:
من قوله قول من فعله ** فعل ونم نائله نائل

أي قوله قول فصل، وفعله فعل جميل، ونائله نائل جزيل، وإلى هذا أشار في الخلاصة بقوله:
وما من المنعوت والنعت عقل ** يجوز حذفه وفي النعت يقل

وقال بعض أهل العلم: الآية عامة. فالقرية الصالحة إهلاكها بالموت، والقرية الطالحة إهلاكها بالعذاب. ولا شك أن كل نفس ذائقة الموت. والمراد بالكتاب: اللوح المحفوظ، والمسطور: المكتوب. ومنه قوله جرير:
من شاء بايعته مالي وخلعته ** ماتكمل التيم في ديوانها سطرا

وما يرويه مقاتل عن كتاب الضحاك بن مزاحم في تفسير هذه الآية: من أن مكة تخربها الحبشة، وتهلك المدينة بالجوع، والبصرة بالغرق، والكوفة بالترك، والجبال بالصواعق والرواجف. وأما خراسان فهلاكها ضروب. ثم ذكر بلدًا بلدًا- لا يكاد يعول عليه. لأنه لا اساس له من الصحة، وكذلك ما يروي عن وهب بن منبه: أن الجزية آمنة من الخراب حتى تخرب أرمينية، وأرمينية آمنة حتى تخرب مصر، ومصر آمنة حتى تخرب الكوفة، ولا تكون الملحمة الكبرى حتى تخرب الكوفة. فإذا كانت الملحمة الكبرى فتحت قسطنطينة على يد رجل من بني هاشم. وخراب الأندلس من قبل الزنج، وخراب إفريقية من قبل الأندلس، وخراب مصر من انقطاع النيل واختلاف الجيوش فيها، وخراب العراق من الجوع، وخراب الكوفة من قبل عدو يحصرهم ويمنعهم الشارب من الفرات، وخراب البصرة من قبيل الغرق، وخراب الأبلة من عدو يحصرهم برًا وبحرًا، وخراب الري من الديلم، وخراب خرسان من قبل التبت، وخراب التبت من قبل الصين، وخراب الهند واليمن من قبل الجراد والسلطان، وخراب مكة من الحبشة، وخراب المدينة من الجوع. اهـ. كل ذلك لا يعول عليه. لأنه من قبيل الإسرائيليات. اهـ.

.قال الشعراوي:

{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56)}.
الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: قل للذين يُعارضونك في الوحدانية إذا مسَّكم ضُرٌ فلا تلجأوا إلى مَنْ تكفرون به، بل الجأوا إلى مَنْ زعمتم أنهم شركاء وآمنتم بهم. فإنهم لن يستمعوا إليك؛ لأن الإنسان بطبعه لا يخدع نفسه، ولو علموا أن الذين يتخذونهم آلهة من دون الله ينفعونهم في شيء لما دَعَوْا ربهم الذين يكفرون به وتركوا الذين يؤمنون بهم، لماذا؟
لأن الإنسان لا يتمرد ولا يطغى إلا إذا كان مُسْتغنيًا بكل ملكاته، بمعنى أن تكون ملكاته كلها على هيئة الاستقامة والانسجام، فإذا اختلتْ له ملكة من الملكات ضَعُفَ طغيانه، وحاول أن يستكمل هذا النقص، وحينئذ لن يخدع نفسه بأن يطلب الاستكمال مِمَّن لا يملكه، بل يطلبه ممَّنْ يعتقد أنه يملكه.
لذلك يقول تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ..} [الإسراء: 67]
وقال: {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ..} [الزمر: 8]
لماذا؟ لأن ما أصابه من ضُرٍّ أضعفه، وكسر عنده غريزة الاستعلاء والاستكبار، لقد كفر بالله من قبل حينما حمله التكاليف، ولكن الآن وبعد أن نزل به الضُّر وأحاط به البلاء فلابد أن يكون صريحًا مع نفسه لا يخدعها.
وضربنا لهذه المسألة مثلًا بحلاق الصحة عند أهل الريف في الماضي وكان مسئولًا عن صِحَّة الناس، ويقوم مقام الطبيب في هذا الوقت، فإذا ما عُيِّن بالقرية طبيب هاجمه الحلاق وأفسد ما بينه وبين الناس، وأشاع عنه عدم العلم وقِلَّة الخبرة ليخلوَ له وجه الناس، ولا يشاركه أحد في رزقه، ومرَّت الأيام وأصيب الحلاق بضُرٍّ، حيث مرض ولد له، فإذا به يحمله خُفْيةً بليْل، ويتسلل به إلى الطبيب، ولكن سرعان ما ينكشف أمره ويُفتضح بين الناس.
إذن: الإنسان في ساعة الضر لا يخدع نفسه ولا يكذب عليها، فقل لهم: إذا مسكم الضر فاذهبوا إلى مَن ادعيتم أنهم آلهة وأدعوهم، فإنهم لن يستجيبوا ولن يدعوهم، ولو دَعَوْهم فلن يكشفوا عنهم ضرهم: {فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ..} [الإسراء: 56]
وقوله تعالى: {وَلاَ تَحْوِيلًا} [الإسراء: 56] أي: ولا يملكون تحويل حالكم من الضر إلى النفع أو النعمة أو الرحمة، أو: لا يملكون تحويل هذا الضر إلى أعدائكم، فهم- إذن- لا يملكون هذه ولا هذه.
فالحق سبحانه يُلقِّن رسوله صلى الله عليه وسلم الحجة، ليوضح لهم أنهم يغالطون أنفسهم، ويعارضون مواجيدهم وفطرتهم، فإن أصابهم الضر في ذواتهم لا يلجأون إلى آلهتهم؛ لأنهم يعلمون أنها لا تملك لهم نفعًا ولا ضرًا، ولن تسمعهم، وإن سمعتهم- فرضًا- ما استجابوا لهم، ويوم القيامة يكفرون بشركهم، بل يلجأون إلى الله الذي يملك وحده كَشْف الضُّر عنهم.
ثم يقول الحق سبحانه: {أُولَائِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ...}.
فهؤلاء الذين تعتبرونهم آلهة وتتخذونهم شركاء لله، هؤلاء أيضًا عبيد لله، يتقربون إليه ويتوسَّلون إليه، فالمسيح الذي أشركتموه مع الله، وكذلك الملائكة هم عباد لله: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا للَّهِ وَلاَ الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172]
هؤلاء لا يرفضون ولا يتأبَّوْن أن يكونوا عبادًا لله، ويريدون التقرُّب إليه سبحانه، فكيف- إذن- تتوجهون إليهم بالعبادة وهم عباد؟
وقوله تعالى: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ..} [الإسراء: 57] أي: يطلبون الغاية والقربى إليه تعالى: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} أي: كلما تقر ّب واحد منهم إلى الله ابتغى اللهَ أكثرَ من غيره وأقبل عليه، فإذا كان الأقرب إلى الله منهم يبتغي القُرْبى، فما بال الأبعد؟
وقوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57]
أي: يجب الحذر منه وتجنُّب أسبابه؛ لأن العذاب إذا كان من الله فلا فِكاكَ منه ولا مهرب، وأيضًا فالعذاب يتناسب مع قدرة المعذِّب ضعفًا وشدة، فإذا نُسِب العذاب إلى الله فلا شكَّ أنه أليم شديد، لا طاقة لأحد به، كما قال تعالى: {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]
والحق سبحانه قد أوضح لنا مسألة الوحدانية في آيات كثيرة، ولم يطلب منا الاعتراف بها إلا بعد أنْ شهد بها لنفسه سبحانه، وبعد أن شهد بها الملائكة وأولو العلم، قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ} [آل عمران: 18]
فشهد الله سبحانه شهادة الذات للذات، وشهدتْ الملائكة شهادة المشهد والمعاينة، وشهد أولو العلم شهادة الاستدلال، فهذه شهادات ثلاث قبل أنْ يطلب مِنّا الشهادة.
وبهذه الشهادة أقبل الحق سبحانه على مزاولة سلطانه وقدرته في الكون، وما دام {لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ} يقول للشيء: كُنْ فيكون، قالها لأنه يعلم أنه لا إله إلا هو، وبها يحكم على الأشياء ويُغيِّر من وضع إلى وضع، فإنْ صحَّتْ هذه الشهادة الثلاثة فقد انتهت المسألة. وإنْ لم تصح وهناك إله آخر فأين هو؟! إنْ كان لا يدري فهو إله نائم لا يصلح لهذه المكانة، وإن كان يدري فلماذا لم يطالب بحقه.
إذن: فهذه الدَّعْوى قد سلمتْ للحق سبحانه لأنه لم يدَّعها أحد لنفسه، فهي للحق تبارك وتعالى حتى يقوم مَنْ يدعيها لنفسه.
قال تعالى: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42]
أي: لو كان للكون إله آخر لطلبوا هذا الإله الذي استقرتْ له الأمور واستتبّ له الحال، ليُجادلوه في هذه المسألة، أو لطلبوه ليتقربوا إليه.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا...}.